فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ عنْ ذِكْرِ اللّهِ}
انتقال من كشف أحوال المنافقين المسوق للحذر منهم والتحذير من صفاتهم، إلى الإِقبال على خطاب المؤمنين بنهيهم عما شأنُه أن يشغل عن التذكر لما أمر الله ونهى، ثم الأمر بالإِنفاق في سبل الخير في سبيل الله ومصالح المسلمين وجماعتهم وإسعاف آحادهم، لئلا يستهويهم قول المنافقين {لا تنفقوا على من عند رسول الله} [المنافقين: 7] والمبادرة إلى ذلك قبل إتيان الموت الذي لا يُدْرى وقت حلوله حين تمنى أن يكون قد تأخر أجله ليزيد من العمل الصالح فلا ينفعه التمني وهو تمهيد لقوله بعده {وأنفقوا من ما رزقناكم} [المنافقون: 10]، فالمناسبة لهذا الانتقال هو حكاية مقال المنافقين ولذلك قدم ذكر الأموال على ذكر الأولاد لأنها أهم بحسب السياق.
ونودي المخاطبون بطريق الموصول لما تؤذن به الصلة من التهمم لامتثال النهي.
وخص الأموال والأولاد بتوجه النهي عن الاشتغال بها اشتغالا يلهي عن ذكر الله لأن الأموال مما يكثر إقبال الناس على إنمائها والتفكير في اكتسابها بحيث تكون أوقات الشغل بها أكثر من أوقات الشغل بالأولاد.
ولأنها كما تشغل عن ذكر الله بصرف الوقت في كسبها ونمائها، تشغل عن ذكره أيضا بالتذكير لكنزها بحيث ينسى ذكر ما دعا الله إليه من إنفاقها.
وأما ذِكر الأولاد فهو إدماج لأن الاشتغال بالأولاد والشفقة عليهم وتدبير شؤونهم وقضاء الأوقات في التأنس بهم من شأنه أن ينسي عن تذكر أمر الله ونهيه في أوقات كثيرة فالشغل بهذين أكثر من الشغل بغيرهما.
وصيغ الكلام في قالب توجيه النهي عن الإِلهاء عن الذكر، إلى الأموال والأولاد والمراد نهي أصحابها، وهو استعمال معروف وقرينته هنا قوله: {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
وأصله مجاز عقلي مبالغة في نهي أصحابها عن الاشتغال بسببها عن ذكر الله، فنُزّل سبب الإِلهاء منزلة اللاّهي للملابسة بينهما وهو كثير في القرآن وغيره كقوله: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان} [الأعراف: 27] وقولهم لا أعرفنك تفعل كذا.
و{لا} في قوله: {ولا أولادكم} نافية عاطفة {أولادكم} على {أموالكم}، والمعطوف عليه مدخول {لا} الناهية لأن النهي يتضمن النفي إذ هو طلب عدم الفعل ف {لا} الناهية أصلها {لا} النافية أشربت معنى النهي عند قصد النهي فجزمت الفعل حملا على مضادة معنى لام الأمر فأكد النهي عن الاشتغال بالأولاد بحرف النفي ليكون للاشتغال بالأولاد حظ مثل حظ الأموال.
و{ذكر الله} مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي.
فيشمل الذكر باللسان كالصلاة وتلاوةِ القرآن، والتذكر بالعقل كالتدبر في صفاته واستحْضار امتثاله قال عمر بن الخطاب: «أفضل من ذكر الله باللسان ذِكر الله عند أمره ونهيه».
وفيه أن الاشتغال بالأموال والأولاد الذي لا يُلهي عن ذكر الله ليس بمذموم وله مراتب.
وقوله: {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}، دليل على قول علماء أصول الفقه (النهيُ اقتضاءُ كف عن فعل).
والإِشارة بـ {ذلك} إلى اللهو عن ذكر الله بسبب الأموال والأولاد، أي ومن يُلْهِ عن ذكر الله، أي يترك ذكر الله الذي أوجبه مثل الصلاة في الوقت ويترك تذكر الله، أي مراعاة أوامره ونواهيه.
ومتى كان اللهو عن ذكر الله بالاشتغال بغير الأموال وغير الأولاد كان أولى بحكم النهي والوعيد عليه.
وأفاد ضمير الفصل في قوله: {فأولئك هم الخاسرون} قصر صفة الخاسر على الذين يفعلون الذي نُهوا عنه، وهو قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران كأن خسران غيرهم لا يعد خسرانا بالنسبة إلى خسرانهم.
والإِشارة إليهم بـ {أولئك} للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإِشارة بسبب ما ذكر قبل اسم الإِشارة، أعني اللهو عن ذكر الله.
{وأنْفِقُوا مِنْ ما رزقْناكُمْ مِنْ قبْلِ أنْ يأْتِي أحدكُمُ الْموْتُ}
هذا إبطال ونقض لكيد المنافقين حين قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} [المنافقون: 7]، وهو يعمّ الإِنفاق على الملتفين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم والإِنفاق على غيرهم فكانت الجملة كالتذييل.
وفعل {أنفقوا} مستعمل في الطلب الشامل للواجب والمستحب فإن مدلول صيغة: افعل، مطلق الطلب، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب.
وفي قوله: {من ما رزقناكم} إشارة إلى أن الإنفاق المأمور به شكر لله على ما رزق المنفِق فإن الشكر صرف العبد ما أنعم الله به عليه فيما خُلق لأجله، ويعرف ذلك من تلقاء الشريعة.
و{مِن} للتبعيض، أي بعض ما رزقناكم، وهذه توسعة من الله على عباده، وهذا البعض منه هو معيّن المقدار مثل مقادير الزكاة وصدقة الفطر.
ومنه ما يتعين بسدّ الخلة الواجب سدّها مع طاقة المنفق كنفقات الحج والجهاد والرباط ونفقات العيال الواجبة ونفقات مصالح المسلمين الضرورية والحاجيّة، ومنه ما يتعين بتعين سببه كالكفارات، ومنه ما وكل للناس تعيينه مما ليس بواجب من الإِنفاق فذلك موكول إلى رغبات الناس في نوال الثواب فإن ذلك باب عظيم من القربى من رضى الله تعالى، وفي الحديث: «الصدقة تُطفئ الخطايا كما يُطفئ الماءُ النار».
وقد ذكّر الله المؤمنين بما في الإِنفاق من الخير بأن عليهم أن يكثروا منه ما داموا مقتدرين قبل الفوت، أي قبل تعذر الإِنفاق والإِتيان بالأعمال الصالحة، وذلك حين يحسّ المرء بحالة تؤذن بقرب الموت ويُغْلب على قواه فيسأل الله أن يؤخر موته ويشفيه ليأتي بكثير مما فرط فيه من الحسنات طمعا أن يستجاب له فإن كان في أجله تأخير فلعل الله أن يستجيب له، فإن لم يكن في الأجل تأخير أو لم يقدر الله له الاستجابة فإنه خير كثير.
و{لولا} حرف تحضيض، والتحضيض الطلب الحثيث المضطر إليه، ويستعمل {لولا} للعرض أيضا والتوبيخ والتنديم والتمني على المجاز أو الكناية، وتقدم عند قوله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت} في سورة [يونس: 98].
وحق الفعل بعدها أن يكون مضارعا وإنما جاء ماضيا هنا لتأكيد إيقاعه في دعاء الداعي حتى كأنه قد تحقق مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] وقرينة ذلك ترتيب فعليْ {فأصدق وأكن من الصالحين} عليه.
والمعنى: فيسأل المؤمن ربه سؤالا حثيثا أن يحقق تأخير موته إلى أجل يستدرك فيه ما اشتغل عنه من إنفاق وعمل صالح.
ووصفُ الأجللِ بـ {قريب} تمهيد لتحصيل الاستجابة بناء على متعارف الناس أن الأمر اليسير أرجى لأن يستجيبه المسؤول فيغلب ذلك على شعورهم حين يسألون الله تنساق بذلك نفوسهم إلى ما عرفوا، ولذلك ورد في الحديث: «لا يقولنّ أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت وليعزم المسألة فإنه لا مُكْره له». تنبيها على هذا التوهم فالقرآن حكى عن الناس ما هو الغالب على أقوالهم.
وانتصب فعل {فأصدق} على إضمار (أنْ) المصدرية إضمارا واجبا في جواب الطلب.
وأما قوله: {وأكن} فقد اختلف فيه القراء.
فأما الجمهور فقرأوه مجزوما بسكون آخره على اعتباره جوابا للطلب مباشرة لعدم وجود فاء السببية فيه، واعتبار الواو عاطفة جملة على جملة وليست عاطفة مفردا على مفرد.
وذلك لقصد تضمين الكلام معنى الشرط زيادة على معنى التسبب فيغني الجزم عن فعل شرط.
فتقديره: إنْ تؤخرْني إلى أجل قريب أكُن من الصالحين، جمعا بين التسبب المفاد بالفاء، والتعليق الشرطي المفاد بجزم الفعل.
وإذا قد كان الفعل الأول هو المؤثر في الفعلين الواقِع أحدهُما بعد فاء السببية والآخرُ بعد الواو العاطفة عليه.
فقد أفاد الكلام التسبب والتعليق في كلا الفعلين وذلك يرجع إلى مُحسن الاحتباك.
فكأنه قيل: لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصّدّق وأكون من الصالحين.
إن تؤخرني إلى أجل قريب أصّدّقْ وأكُنْ من الصالحين.
ومن لطائف هذا الاستعمال أن هذا السائل بعد أن حثّ سؤاله أعقبه بأن الأمر ممكن فقال: إن تؤخرني إلى أجل قريب أصّدق وأكن من الصالحين.
وهو من بدائع الاستعمال القرآني لقصد الإِيجاز وتوفير المعاني.
ووجّه أبو علي الفارسي والزجاجُ قراءة الجمهور بجعل {وأكن} معطوفا على محل {فأصدق}.
وقرأه أبو عمرو وحده من بين العشرة {وأكون} بالنصب والقراءة رواية متواترة وإن كانت مخالفة لرسم المصاحف المتواترة.
وقيل: إنها يوافقها رسم مصحف أبيّ بن كعب ومصحفُ ابن مسعود.
وقرأ بذلك الحسن والأعمش وابن محيض من القراءات غير المشهورة.
ورويت عن مالك بن دينار وابن جبير وأبي رجاء، وتلك أقل شهرة.
واعتذر أبو عمرو عن مخالفة قراءته للمصحف بأن الواو حذفت في الخط اختصارا يريد أنهم حذفوا صورة إشباع الضمة وهو الواو اعتمادا على نطق القارئ كما تحذف الألف اختصارا بكثرة في المصاحف.
وقال القراء العرب: قد تسقط الواو في بعض الهجاء كما أسقطوا الألف من سليمان وأشباهه، أي كما أسقطوا الواو الثانية من داوود وبكثرة يكتبونه داود.
قال الفراء: ورأيت في مصاحف عبد الله: {فقولا} نقلا بغير واو، وكل هذا لا حاجة إليه لأن القرآن ملتقىّ بالتواتر لا بهجاء المصاحف وإنما المصاحف معينة على حفظه.
{ولن يُؤخِّر الله نفْسا إِذا جاء أجلُهآ}.
اعتراض في آخر الكلام فالواو اعتراضية تذكيرا للمؤمنين بالأجل لكل روح عند حلولها في جسدها حين يؤمر الملك الذي ينفخُ الروح يكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد.
فالأجل هو المدة المعينة لحياته لا يؤخر عن أمده فإذا حضر الموت كان دعاء المؤمن الله بتأخير أجله من الدعاء الذي اسْتجاب لأن الله قدر الآجال.
وهذا سر عظيم لا يعلم حكمة تحديده إلا الله تعالى.
والنفس: الروح، سميت نفسا أخذا من النفس بفتح الفاء وهو الهواء الذي يخرج من الأنف والفم من كل حيوان ذي رئة، فسميت النفس نفسا لأن النفس يتولد منها، كما سمي مرادف النفس رُوحا لأنه مأخوذ الروح بفتح الراء لأن الرّوح به.
قاله أبو بكر بن الأنباري.
و{أجلها} الوقت المحدد لبقائها في الهيكل الإِنساني.
ويجوز أن يراد بالنفس الذات، أي شخص الإِنسان وهو من معاني النفْس.
كما في قوله تعالى: {أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] وأجلها الوقت المعيّن مقداره لبقاء الحياة.
و{لن} لتأكيد نفي التأخير، وعموم {نفسا} في سياق النفي يعم نفوس المؤمنين وغيرهم.
ومجيء الأجل حلول الوقت المحدد للاتصال بين الروح والجسد وهو ما علمه الله من طاقة البدن للبقاء حيا بحسب قواه وسلامته من العوارض المهلكة.
وهذا إرشاد من الله للمؤمنين ليكونوا على استعداد للموت في كل وقت، فلا يؤخروا ما يهمهم عمله سؤال ثوابه فما من أحد يؤخر العمل الذي يسره أن يعمله وينال ثوابه إلا وهو معرض لأن يأتيه الموت عن قريب أو يفاجئه، فعليه بالتحرز الشديد من هذا التفريط في كل وقت وحال، فربما تعذر عليه التدارك بفجأة الفوات، أو وهن المقدرة فإنه إن كان لم تطاوعه نفسه على العمل الصالح قبل الفوات فكيف يتمنى تأخير الأجل المحتوم.
{أجلُهآ والله خبِيرٌ بِما}.
عطف على جملة {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم} [المنافقون: 9].
أو تذييل والواو اعتراضية.
ويفيد بناء الخبر على الجملة الاسمية تحقيق علم الله بما يعمله المؤمنون.
ولما كان المؤمنون لا يخامرهم شك في ذلك كان التحقيق والتقوِّي راجعا إلى لازم الخبر وهو الوعد والوعيد والمقام هنا مقامهما لأن الإِنفاق المأمور به منه الواجب المندوب.
وفعلهما يستحق الوعد.
وترك أولهما يستحق الوعيد.
وإيثار وصف {خبير} دون: عليم، لما تؤذن به مادة {خبير} من العلم بالأمور الخفية ليفيد أنه تعالى عليم بما ظهر من الأعمال وما بطن مثل أعمال القلب التي هي العزائم والنيّات، وإيقاع هذه الجملة بعد ذكر ما يقطعه الموت من ازدياد الأعمال الصالحة إيماء إلى أن ما عسى أن يقطعه الموت من العزم على العمل إذا كان وقته المعين له شرعا ممتدا كالعُمر للحج على المستطيع لمن لم يتوقع طروّ مانع.
وكالوقت المختار للصلوات، أن حيلولة الموت دون إتمامه لا يُرْزِئ المؤمن ثوابه لأن المؤمن إذا اعتاد حزبا أو عزم على عمل صالح ثم عرض له ما منعه منه أن الله يعطيه أجره.
ومن هذا القبيل: أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة كما في الحديث الصّحيح.
وقرأ الجمهور {بما تعملون} بالمثناة الفوقية، وقرأه أبو بكر عن عاصم بالمثناة التحتية فيكون ضمير الغيبة عائدا إلى {نفسا} الواقع في سياق النفي لأنه عام فله حكم الجمع في المعنى. اهـ.